فصل: تفسير الآيات (15- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.سورة النازعات:

.تفسير الآيات (1- 14):

{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}
فإنَّ جواب القسم: لتُبعثن ثم لتعذِّبن.
يقول الحق جلّ جلاله: {والنازعاتِ} أي: والملائكة التي تنزع الأرواح من أجسادها، كما قال ابن عباس أو أرواح الكفرة، كما قاله هو أيضاً وابن مسعود، {غَرْقاً} أي: إغراقاً، من: أَغرق في الشيء: بالغ فيه غايةً، فإنها تُبالغ في نزعها فتخرجها من أقاصي الجسد. قال ابن مسعود: تنزع روح الكافر مِن جسده من تحت كل شعرة، ومِن تحت الأظافر، ومن أصول القدمين، ثم تفرقها في جسده، ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج تردها في جسده، فهذا عملها بالكفار دون المؤمنين. أو: تُغرقها في جهنم، فهو مصدر مؤكد.
{والناشطاتِ نشطاً} أي: ينشطونها ويخرجونها من الجسد من: نَشط الدلو من البئر: أخرجها. {والسابحاتِ سَبْحاً} أي: يسبحون بها في الهوى إلى سدرة المنتهى. شبّه سرعة سيرهم بسبح الهوام، أو يسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج من البحر ما يخرج، {فالسابقاتِ سبقًا} فيسبقون بأرواح الكفرة إلى النار، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، {فالمُدبراتِ أَمْراً} تُدبر أمر عقَابها وثوابها، بأن تهيئها لإدراك ما أعدّ لها من الآلام والثواب، أو السابحات التي تسبح في مضيها، فتسبق إلى ما أمروا به، فتدبر أمراً من أمور العباد، مما يصلحهم في دينهم ودنياهم كما رُسم لهم.
أو: يكون تعالى أَقْسَم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب، غرقاً في النزع، بأن تقطع الفلك حتى تنحطّ في أقصى المغرب، وتنشط من برج إلى برج، أي: تخرج، من: نَشط الثور: إذا خرج من بلد إلى بلد، وتَسْبح في الفلك فتسبق بعضها بعضاً فتُدبر أمراً نِيط بها، كاختلاف الفصول، وتقدير الأزمنة، وتدبير مواقيت العبادة، وحيث كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب قسرية أي: قهرية- وحركاتها من برج إلى برج ملائمةً عبَّر عن الأولى بالنزع، وعن الثانية بالنشط.
أو: بأنفس الغُزاة، أو: بأيديهم التي تنزع القِسي، بإغراق السهام، وينشطون بالسهم إلى الرمي، ويَسْبحون في البر والبحر، فيسبقون إلى حرب العدو، فيُدبرون أمرها، أو: بصفات خيلهم، فإنها تنزع في أعنّتها نزعاً تغرق فيه الأعنّة لطول أعناقها، لأنها عراب، وتخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب، وتَسْبح في جريها، فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر والغلبة. وسيأتي في الإشارة أحسن هذه الأقوال إن شاء الله.
وانتصاب {نشطاً} و{سَبْحاً} و{سبقاً} على المصدرية، وأما {أمراً} فمفعول به، وتنكيره للتهويل والتفخيم. والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير العنواني منزلة المتغاير الذاتي؛ للإشعار بأنَّ كل واحدٍ من الأوصاف المعدودة من معظّمات الأمور، حقيق بأن يكون حياله مناطاً لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام بالإقسام من غير انضمام أوصاف الآخر إليه.
والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتيبهما على ما قبلهما بلا مهلة. والمقسم عليه محذوف، تعويلاً على إشارة ما قبله من المقسم به إليه، ودلالة ما بعد من أحوال القيامة عليه، فإنَّ الإقسام بمَن يتولى نزع الأرواح، ويقوم بتدبيرها، يلُوح بكون المقسم عليه مِن قبل تلك الأمور لا محالة، ففيه من الجزالة ما لا يخفى.
أي: لتُبعثن {يومَ ترجُفُ الراجِفةُ}، فالعامل في الظرف هو الجواب المحذوف. والرجف: شدة الحركة. والراجفة: النفخة الأولى، وُصفت بما حدث عندها لأنها تضطرب لها الأرض حتى يموت مَن عليها، وتزلزل الجبال وتندك الأرض دكاً ثم {تتبعها الرادِفةُ}؛ النفخة الثانية، لأنها تردف الأولى، وبينهما أربعون سنة، والأولى تُميت الخلق والثانية تُحْييهم.
{قلوبٌ يومئذٍ}، وهي قلوب منكري البعث، {واجفةٌ}؛ مضطربة، من: الوجيف، وهو الاضطراب، {أبصارُها} أي: أبصار أصحابها {خاشعةٌ}؛ ذليلة لهول ما ترى، {يقولون} أي: منكرو البعث في الدنيا استهزاءً وإنكاراً للبعث: {أئنا لمردودون في الحافرة}، استفهام بمعنى الإنكار، أي: أنُردّ بعد موتنا إلى أول الأمر، فنعود أحياءً كما كنا؟ والحافرة: الحالة الأولى، يُقال لمَن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه: رجع إلى حافرته، أي: إلى حالته الأولى، يُقال: لمَن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه: رجع إلى حافرته أي: إلى حالته الأولى ويُقال: رجع في حافرته، أي: طريقته التي جاء فيها، فحفر فيها، أي: أثر فيها بمشيه، وتسميتها حافرة مع أنها محفورة، كقوله: {عيشة راضية} [الحاقة: 21] على تسمية القابل بالفاعل.
أنكروا البعث ثم زادوا استبعاداً فقالوا: {أئذا كنا عظاماً نخرةً}؛ بالية. ونخرة أبلغ من ناخرة؛ لأنَّ فَعِلٌ أبلغ من فاعل، يقال: نَخِرَ العظم فهو نَخِرٌ وناخر: بِلَى، فالنَخِر هو البالي الأجوف الذي تمر به الريح فيسمع له نخير، أي: أنُرد إلى البعث بعد أن صرنا عظاماً بالية؟. و{إذا} منصوب بمحذوف، وهو: أنُبعث إذا كنا عظاماً بالية مع كونها أبعد شيء في الحياة.
{قالوا} أي: منكروا البعث، وهو حكاية لكفر آخر، متفرع على كفرهم السابق، ولعل توسيط {قالوا} بينهما للإيذان بأنّ صدور هذا الكفر عنه ليس بطريق الاطراد والاستمرار مثل كفرهم الأول المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم، حسبما يُنبئ عنه حكايته بصيغة المضارع، أي: قالوا بطريق الاستهزاء، مُشيرين إلى ما أنكروه من الرد في الحافرة، مشعرين بغاية بُعدها من الوقوع: {تلك إِذاً كرةٌ خاسرةٌ} أي: رجفة ذات خسران، أو خاسر أصحابها، والمعنى: أنها إن صحّت وبُعثنا فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا استهزاءُ منهم.
قال تعالى في إبطال ما أنكروه: {فإِنما هي زجرةٌ واحدة} أي: لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله، بل هي أسهل شيء، فما هي إلاّ صيحة واحدة، يُريد النفخة الثانية من قولهم: زَجَر البعير: إذا صاح عليه.
{فإِذا هم بالسَّاهرةِ} أي: فإذا هم أحياء على وجه الأرض، بعدما كانوا أمواتاً في جوفها. والساهرة: الأرض البيضاء المستوية، سُميت بذلك، لأنَّ السراب يجري فيها، من قولهم: عين ساهرة جارية، وفي ضدها: عين نائمة، وقيل: إنَّ سالكها لا ينام خوف الهلكة، وقيل: أرض بعينها بالشام إلى جنب بيت المقدس، وقيل: أرض مكة. وقيل: اسم لجهنّم. وعن ابن عباس: أنَّ الساهرة: أرض مِن فضة، لم يُعص اللهَ تعالى عليها قط، خلقها حينئذ. وقيل: أرض يُجددها الله تعالى يوم القيامة. وقيل: الأرض السابعة، يأتي الله بها يوم القيامة فيُحاسب عليها الخلائق، وذلك حين تُبدل الأرض غير الأرض، وقيل: الساهرة: أرض صحراء على شفير جهنم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: والأرواح النازعات عن ملاحظة السِّوى غرقاً في بحار الأحدية. والناشطات من علائق الدنيا ومتابعة الهوى نشطاً، والسابحات بأفكارها في بحر أنوار الملكوت، وأسرار الجبروت، سبحاً، فالسابقات إلى حضرة القدس سبقاً، فالمدبرات أمر الكون، بالتصرُّف فيه بالنيابة عن الحق، وهو مقام القطبانية، أو النازعات عن الحظوظ والشهوات غرقاً في التجرُّد إلى العبادات بأنواع الطاعات. وهذه أنفس العُبّاد، والناشطات عن الدنيا، وأهلها فراراً إلى الله نشطاً، وهي أنفس الزُهّاد والسابحات بعقولها في أسرار العلوم، فتستخرج من الكتاب والسنة درراً ويواقيت، يقع النفع بها إلى يوم الدين، وهي أنفس العلماء الجهابذة، فالسابقات إلى الله بأنواع المجاهدات والسير في المقامات، حتى أفضت إلى شهود الحق عياناً، سبقاً، وهي أنفس الأولياء العارفين، فالمُدبرات أمر الخلائق بقسم أرزاقها وأقواتها ورتبها، وهي أنفس الأقطاب والغوث. وقال البيضاوي: هذه صفات النفوس وحال سلوكها، فإنها تنزع من الشهوات، وتنشط إلى عالم القدس، فتسْبَح في مراتب الارتقاء، فتسبق إلى الكمالات، حتى تصير من المكمِّلات، زاد الإمام: فتُدبْر أمر الدعوة إلى الله. وقال الورتجبي: إشارة النازعات إلى صولات صدمات تجلي العظمة، فتنزع الأرواح العاشقة عن معادن الحدوثية. ثم قال: والناشطات: الأرواح الشائقة تخرج من أشباحها بالنشاط، حين عاينت جمال الحق بالبديهة وقت الكشف. ثم قال: والسابحات تسْبَح في بحار ملكوته وقاموس كبرياء جبروته، تطلب فيها أسرار الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية، فالسابقات في مصاعدها عالم الملكوت وجنات الجبروت، تُسابق كل همة فالمدبِّرات هي العقول القدسية تُدَبّر أمور العبودية بشرائط إلهام الحقيقة. اهـ.
والمقسَم عليه: ليبعَثن اللهُ الأرواحَ الميتة بالجهل والغفلة، حين تنتبه إلى السير بالذكر والمجاهدة، فإذا حييت بمعرفة الله كانت حياة أبدية. وذلك يوم ترجف النفس الراجفة، وذلك حين تتقدّم لخرق عوائدها ومخالفة هواها، تتبعها الرادفة، وهي ظهور أنوار المشاهدة، فحينئذ تُبعث من موتها، وتحيا حياة لا موت بعدها، وأمّا الموت الحسي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام. قلوب يومئذ أي: يوم المجاهدة والمكابدة واجفة، لا تسكن حتى تُشاهد الحبيب، أبصارُها في حال السير خاشعة لا يُخلع عليها خلعُ العز حتى تصل.
يقول أهل الإنكار لهذه الطريق: أئِنا لمردودون إلى الحالة الأولى، التي كانت الأرواح عليها في الأزل، بعد أن كنا ميتين بالجهالة، مُرْمى بنا في مزابل الغفلة، كعِظام الموتى، قالوا: تلك كرة خاسرة، لزعمهم أنهم إذا صاروا إلى هذا المقام لم يبقَ لهم تمتُّع بشيء أصلاً، مع أنَّ العارف إذا تحقق وصوله تمتع بالنعيمين؛ نعيم الأشباح ونعيم الأرواح. قال تعالى في رد ما استحالوه: فإنما هي زجرة واحدة من همة عارف، أو نظرة وليّ كامل، فإذا هم في أرض الحضرة القدسية. قال الشيخ أو العباس: والله ما بيني وبين الرجل إلاَّ أن أنظر إليه وقد أغنيته. قلت: والله لقد بقي في زماننا هذا مَن يفوق أبا العباس والشاذلي وأضرابهما في الإغناء بالنظرة والملاحظة، والحمد لله.

.تفسير الآيات (15- 26):

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)}
يقول الحق جلّ جلاله: {هل أتاك حديثُ موسى} تشويقاً لما يُلقى إليه مِن خبره، أي: هل أتاك حديثه، أنا أُخبرك به، إن كان هذا أول ما أتاه من حديثه. وإن كان تقدّم قبل هذا حديثه، وهو المتبادر، فالمعنى: أليس قد آتاك حديثه. وقوله: {إِذْ ناداه رَبُّه}: ظرف للحديث لا للإتيان، لاختلاف وقتهما أي: هل وصلك حديثه ناداه ربه {بالوادِ المقدّس}؛ المبارك المطهّر، اسمه: {طُوى} بالصرف وعدمه. فقال في ندائه له: {اذهبْ إِلى فرعون إِنه طَغَى}؛ تجاوز الحدّ في الكفر والطغيان، {فقلْ} له بعد أن تأتيه: {هل لك إِلى أن تزكَّى} أي: هل لك رغبة وتَوَجُّه إلى التزكية والتطهير من دنس الكفر والطغيان بالطاعة والإيمان. قال ابن عطية: {هل} هو استدعاء حسن. قال الكواشي: يقال: هل لك في كذا؟ وهل لك إلى كذا؟ كقولك: هل ترغب في كذا، وهل ترغب إلى كذا. قال: وأخبر تعالى أنه أمر موسى بإبلاغ الرسالة إلى فرعون بصيغة الاستفهام والعرض، ليكون أصغى لأذنه، وأوعى لقلبه، لِما له عليه من حق التربية. اهـ. وأصله: {تتزكى}، فحذف إحدى التاءين، أو: أدغمت، فيمن شدّد الزاي.
{وأهْدِيَكَ إِلى ربك}؛ وأهديك إلى معرفته، بذكر دلائل توحيده وصفات ذاته، {فتخشَى}، لأنَّ الخشية لا تكون إلاَّ مع المعرفة، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماؤا} [فاطر: 28] أي: العلماء بالله. وقال بعض الحكماء: اعرفوا الله، فمَن عرف الله لم يقدر أن يعصيه طرفةَ عين. فالخشية ملاك الأمر فمَن خشي الله أتى منه كل خير ومَن أَمِنَ اجترأ على كل شر. ومنه الحديث: «مَن خشي أدلج، ومَن أدلج بلغ المنزل» قال النسفي: بدأ مخاطبته بالاستفهام، الذي معناه العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلامَ الرقيق، ليستدعيه باللطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوّه، كما أمر بذلك في قوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِِّناً} [طه: 44]. اهـ.
{فأراه الآيةَ الكبرى}، الفاء: فصيحة تفصح عن جملة قد طويت تعويلاً على تفصيلها في السور الأخرى، فإنه عليه السلام ما أراه إياها عقب هذا الأمر، بل بعدما جرى بينه وبينه من المحاورات إلى أن قال: {إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ} [الأعراف: 106]. والآية الكبرى: العصا، أو: هي واليد، لأنهما في حكم آية واحدة. ونسبتُها إليه عليه السلام بالنسبة إلى الظاهر، كما أنّ نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أريناه ءاياتنا كُلَّهَا} [طه: 56] بالنظر إلى الحقيقة {فكذَّب وعَصَى} أي: كذَّب موسى عليه السلام. وسمَّى معجزته سحراً، وعصى اللهَ عزّ وجل بالتمرُّد، بعدما عَلِمَ صحة الأمر ووجوب الطاعة، أشد العصيان وأقبحه، حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأساً.
وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عزّ وجل، وترك القولة العظيمة التي يدّعيها الطاغية، ويقبلها منه الفئة الباغية، لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر فقط. قاله أبو السعود.
{ثم أّدْبَر} أي: تولَّى عن الطاعة، أو: انصرف عن المجلس {يسعَى} في معارضة الآية، أو: أدبر هارباً من الثعبان، فإنه رُوي أنه عليه السلام لمّا ألقى العصا انقلب ثعباناً أشعر، فاغراً فاه، بين لحييه ثمانون ذرعاً فوضع لحيه الأسفل على الأرض، والأعلى على القصر، فتوجه نحو فرعون، فهرب وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً من قومه وقيل: إنها ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون، وجعلت تقول: يا موسى مُرني بما شئت، وجعل فرعون يقول: بالذي أرسلك إلاّ أخذته، فأخذه فعاد عصا..
{فحشَرَ} أي: فجمع السحرة، كقوله: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} [الشعراء: 53] أو: جمع الناس، {فنادَى} في المقام الذي اجتمعوا فيه، قيل: قام خطيباً، {فقال أنا ربكم الأعلَى} لا رب فوقي، وكان لهم أصنام يعبدونها. وهذه العظيمة لم يجترئ عليها أحد قبله. قال ابن عطية: وذلك نهاية في المخارقة، ونحوُها باقٍ في ملوك مصر وأتباعهم. اهـ. قيل: إنما قال ذلك ابنُ عطية لأنَّ ملك مصر في زمانه كان إسماعيليًّا، وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم. وكان أول مَن ملكها منهم: المعتز بن المنصور بن القاسم بن المهدي عبيد الله، وآخرهم العاضد. وقد طهَّر الله مصر من هذا المذهب، بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذا رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيراً. اهـ. من الحاشية.
{فأخَذَه اللهُ نكال الآخرةِ والأُولى} بالإغراق، فالنكال: مصدر بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم، وهو التعذيب الذي ينكل مَن رآه أو سمعه، ويمنعه من تعاطي ما يُفضي إليه. وهو منصوب على أنه مصدر مؤكد، كوعْدَ الله وصبغةَ الله، وقيل: مصدر لـ أخذ، أي: أخذه الله أخذ نكال الآخرة، وقيل: مفعول من أجله، أي: أخذه الله لأجل نكال الآخرة. وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع بعض الأخذ فيهما، لا باعتبار أنَّ ما فيه من المنع والزجر يكون فيهما، فإنَّ ذلك لا يتصور في الآخرة، بل في الدنيا، فإنَّ العقوبة الأخروية تنكل مَن يسمعها، وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها لا محالة. وقيل: المراد بالآخرة والأولى: قوله: {أنا ربكم الأعلى} وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إله غَيْرِى} [القصص: 38]. قيل: كان بين الكلمتين أربعون سنة، فالإضافة إضافة المسبب إلى السبب.
{إِنَّ في ذلك} أي: فيما ذكره من قصة فرعون وما فعل به {لَعِبرةً} عظيمة {لِمن} شأنه أن {يَخْشَى} وهو مَن عرف الله تعالى وسطوته.
الإشارة: جعل القشيري موسى إشارة إلى القلب، وفرعون إشارة إلى النفس، فيُقال: هل أتاك حديث القلب حين ناداه ربه بالحضرة المقدسة بعد طي الأكوان عن مرآة نظره، فقال له: اذهب إلى فرعون النفس إنه طغى.
وطغيانها: إرادتها العلو والاستظهار، فقل له: هل لك إلى أن تَزَكَّى وتتطهر من الخبائث، لتدخل الحضرة، فأَهديك إلى معرفة ربك فتخشى، فإنما يخشى اللهَ مَن عرفه. فأراه الآية الكبرى مِن خرق العوائد ومخالفة الهوى، فكَذَّب وعصى، حين رأى عزم القلب على مجاهدته، فحشر جنوده مِن حب الدنيا والرئاسة، وإقبال الناس والحظوظ والشهوات، فنادى، فقال: أنا ربكم الأعلى، فلا تعبدوا غيري. هذا قول فرعون النفس، فأخذه اللهُ نكال الآخرة والأولى، أي: استولى جند القلب عليه، فأغرقه في قلزوم بحر الفناء والبقاء. إنَّ في ذلك لعبرة لمَن يخشى، ويسلك طريق التزكية، فإنه يصل إلى بحر الأحدية. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.